29 - 06 - 2024

ترنيمة عشق | خريطة الأستاذ أنور

ترنيمة عشق | خريطة الأستاذ أنور

لا أنسى الأستاذ "أنور رمضان عمر" - رحمه ربي - وهو يدخل علينا بالصّف الأول الثّانوي وفي يده علبة "طباشير" جيرية ملونة ليدرّس لنا مادة "الجغرافيا" التي كنتُ أعشقها..

قبل بداية كل درس كان يُصر على رسم "خريطة مِصر".. و"العالَم العربي".. و"إفريقيا" حتى ولو كان موضوع الدًرس لا يتطلب ذلك !

 لكنه كان يُصرّ على رسمها وتلوينها بمهارة لافتة ودقة متناهية وكأنها يحفظ مقياس الرّسم بالمللي.. ثم يطلب من البنات جميعهن أن يرسمنها بمنتهى الدّقة.. ويستدعينا واحدة تلو الأخرى لنرسمها بأيدينا على "السّبورة" السّوداء.. بل ويكلفنا بواجب منزلي بأن نقوم بشفّ الخريطة - بورق شفاف مخصوص - ووضعها في دفتر نشاط "الجغرافيا".. ثم لصقها بزوايا ورقية ملونة - كانت تُباع خصيصًا للصق الخرائط بالدّفاتر - وفي الحصّة التّالية يقوم بتقييم الرًسم ومنحنا درجة تتناسب مع مهارتنا في الرّسم أو الشّف.. 

لم يكن"الأستاذ" يستمع لاعتراض بعض البنات - ممن سيلتحقن بالقسم العلمي - .. وبذلك لن يدرسن "جغرافيا ولا تاريخ".. فلماذا يحفظن الخريطة ؟!.. فكان يبتسم بود قائلًا: "الأدبي والعلمي اختياركنّ.. بينما الوطن قدَرُكن.. فاحفظنه وحافظن عليه".

بعد عدة أسابيع نسعد لأن الصّف كله بات مُتقنًا لرسم الخريطة دون استخدام أدوات هندسية.. ولا حتى مسطرة لرسم الحدود بين الدّول ! (ومعلوم أنه باتفاقية "سايكس بيكو" المشؤومة "فصَلتِ" الحدود بين العرب بخطوط مستقيمة على الخريطة بشكل مقصود.. ولكن تلك حكاية أخرى).

كنتُ أول مَن أتقنتِ الرّسم بين الطّالبات دون اللجوء للورق الشّفاف نظرًا لعشقي للجغرافيا.. ولأن أستاذي كان "جارنا" كذلك.. فخشيتُ أن يشكو تقصيري لوالدي في أي أمر.. وأنا الطّالبة الحريصة على التّفوق في دراستها وعلى أن يفتخر بها والداها كما تعودا..

الأمر الذي جعل مُعلمي يطلب منّي – دومًا - رسم الخريطة على "السّبورة" في أول كل حصّة مُباهيًا بي البنات ويشدّ عليّ نظرًا لعشم الجيرة بيننا.

إتقاني لرسم الخريطة لا يعود لفضل الأستاذ "أنور" وحده.. بل ولوالدي الذي كان حريصًا على "غرس الوعي" في عقل صغاره مذ الصغر.. 

فلا أنسى خريطة "مصر" وخريطة "الوطن العربي" اللتين كانتا معلقتين على حائط غرفتنا.. ننام ونصحو على بديع ألوانها لا سيما حين تشرق عليها شمس الصّباح.. كي تبقى في أذهاننا ما حيينا.. فالخريطة الواحدة كان طولها مترًا وعرضها نصف المتر.

أما كتاب "أطلس" المدرسي الضّخم.. الأنيق.. النّفيس والذي كنا نتسلمه في الصّف الأول الثّانوي.. رمادي اللون.. كبير الحجم.. شديد الإتقان.. رائع الأناقة والألوان.. فكان يحتل أجمل رفوف المكتبة.. كلما نظرتُ إليه شعرتُ – صدقًا - بالأمان الشّديد.. وبأنّ تاريخ وتضاريس ومعالم ومناخ وثروات ومعادن وزراعات وحدود "وطني العربي الأكبر" يحويها قلبي وتُدفىء عالمي.. وغرفتي.

 رحل معلمي شابًا قبل أن يتزوج.. ورحل والدي.. وتمزّقت صفحات "أطلس".. ولكن بقيت الجغرافيا عشقي.. وظلت الخريطة بعقلي وقلبي ووجداني توقظها عبارة أستاذي: "وطننا قدرُنا".
-----------------------------
بقلم: حورية عبيدة

مقالات اخرى للكاتب

ترنيمة عشق | حتىٰ أنت يا بروتس ؟!





اعلان